ليست قوة التغيير في التنظيم المجتمعي قوة فردية، بل قيادة جماعية قائمة على قيادة الناس في حراكٍ يسعى إلى تحقيق مطالبهم، فأهل القضية هم الأكثر تأثرًا بالمشكلة وحاجةً إلى إيجاد حلٍ لها. يعتبر “الحشد” أحد المهمات الرئيسة والمستمرة للنضالات الشعبية، من أجل تشكيل قوة جمعية منسجمة، وصفها ميشيل فوكو بـأنها “علاقات متعددة القوة، تميّز وتشكّل الجسد الاجتماعي، ولا تعمل من دون إنتاج وتراكم وخطاب موحد”. الحشد، لغويًا، يعني جمع الناس بطريقة منظّمة، فنقول حشد الجنود في المعارك، لكننا عندما نعبّر عن حالة غير منظّمة، مثل الازدحام والتجمع الفوضوي، نقول احتشاد الشوارع بالناس. ما نقصده بالحشد في هذه الورقة المعرفية هو ليس حشد الأفراد للتصرف بتكتيكات مثل المشاركة بالمظاهرات وجمع التواقيع وغيرها، بل هو ضمّ وتعبئة أشخاص جدد للانخراط في التنظيم وقيادته. جاءت هذه الورقة لمحاولة الإجابة عن سؤالين جوهريين حول مهمّة الحشد في الحملات، طُرحا في حوار عُقد في تشرين الثاني 2022، بمشاركة 18 حملة تعتمد نهج التنظيم المجتمعي في الوطن العربي.
السؤال الأول: أين نجد أهل القضية؟
يلجأ أعضاء الحملات من أجل حشد الفرق إلى البحث في بياناتهم والتواصل مع دوائرهم المحيطة من الأقارب والأصدقاء في أولى خياراتهم. قد تنعكس هذه الآلية في حشد مجموعة من الأفراد ممن نتشارك معهم القيم والقضايا والظروف، لكنها على المدى البعيد غير مستدامة؛ لأن شبكة علاقات الأفراد مهما كانت واسعة، فهي محدودة، وفي كثير من الأحيان، قد توفر آلية الحشد تلك الانسجام بين أعضاء الفريق، لكنها لا تُغني المجموعة بوجهات نظر جديدة وخلفيات متنوعة.
من أجل حشد الأفراد المناسبين من أهل القضية للانضمام إلى الحملة، علينا أن نتوقع أين نجدهم من خلال التفكير في أسلوب معيشتهم. إذا كان أهل القضية ذوي الإعاقة المحرومين من الرعاية الصحية، فمن المرجّح أن مراكز الصحة العامة ومكاتب تقديم التدخلات الطبية العاجلة هي أماكن يمكن أن نجدهم فيها؛ وإذا كان أهل القضية هم العمال أصحاب الحد الأدنى للأجور، من المرجح أن المصنع والمقهى الشعبي القريب والتجمعات السكنية الخاصة بهم هي أكثر أماكن تواجدهم. قد تبدو هذه الأمثلة بديهية، لكنها ضرورية لتعميق جوهر التنظيم المجتمعي القائم على أن الحملات – ومنظمات المجتمع المدني – تذهب لأهل القضية، ولا تنتظرهم أن يأتوا إليها، وتتحدث معهم في سياقهم، من دون أن تضعهم في سياقات لا تربطهم معها حالتهم الشخصية.
إن التفكير في أماكن تواجد أهل القضية يمكّن الحملة من التعامل مع المجتمع باعتباره شرائح لها اختلافاتها وخصوصيتها. فمثلًا، إذا كان أهل القضية هم الطلبة الجامعيين الذين يعانون في المواصلات العامة، فمن المرجح أن الحرم الجامعي ومحطة الباص هي أكثر أماكن من المحتمل أن نجدهم فيها، وكذلك يوجد أماكن مختلفة حيث يمكننا أن نجد فيها الطلبة الذي يعانون ارتفاع تكاليف الكتب، أو الطلبة الوافدين الذي يعانون من الصورة النمطية، أو الطالبات اللواتي يعشن في سكنات الجامعة. يشمل البحث عن أماكن تواجد أهل القضية أيضًا الخيارات الافتراضية، مثل مجموعات الفيسبوك التي يجتمع فيها أهالي مرضى التوحد بحثًا عن المساعدة والمساندة، حيث يبحثون عن أفضل الأطباء والأدوية والممارسات، كذلك تطبيق كلوب هاوس الذي يستخدمه الناشطون السياسيون لمناقشة التحديات التي يواجهونها، فهو أيضًا مكان يمكن الوصول من خلاله لأهل القضية.
السؤال الثاني: كيف نحشد أهل القضية؟
بعد معرفة مكان تواجد أهل القضية، يمكن لعقد اللقاءات الفردية والزيارات الميدانية أن تكون بداية لهدف حشد أهل القضية في أماكن وجودهم، وهو ما كان في حملة “الأقصى كل السور” التي ترفع وعي المعلمين/ات بالدور الأردني تجاه الأقصى، فنظّمت سلسلة زيارات للمدارس، حيث أهل القضية، كذلك نظّمت حملة “بهمونا” زيارات لمنازل أمهات الأطفال من ذوي الإعاقة. بالإضافة للحشد واستكشاف القياديين.ات الجدد، تتيح هذه الزيارات مشاركة القصص، وتبادل التجارب، وخلق حالة من الشرعية للحملات في مجتمعاتها، فيشعر أهل القضية بكفاءة الحملة في تمثيلهم، وبالمعاناة المشتركة التي تجمعهم.
يقول ناعوم تشومسكي إن “تحويل عامة الناس إلى النزعة الاستهلاكية، أو عدم المبالاة، أو الكراهية والانشغال بإقصاء بعضهم البعض، يؤدي لتمكين الأقوياء من أن يفعلوا ما يحلو لهم”. وهو ما تواجهه الحملات في كثير من الأحيان، متمثّلًا بتخوّف الأفراد من الانضمام إليها، خشية تبعات العمل المدني، أو استجابة للحالة الانهزامية السائدة، في حين أنهم قد يتشجّعون للمشاركة في الأنشطة والفعاليات المؤطّرة بشكل توعوي أو ثقافي، التي قد ترفع من وعيهم وتمكن قدراتهم، وتكسر حاجز الخوف من الانضمام إلى الحملات.
نظّمت حركة “الأردن تقاطع” مخيمًا صيفيًا حول قيم التطوع والمواطنة الفاعلة والتنظيم المجتمعي والأنشطة البيئية، لحشد اليافعين واليافعات في تحركات أولية ضمن مدارسهم، ونظمت حملة “سالمة تعيش” قافلة توعوية للفلاحات تتعلق بحقهنّ في استخدام وسائل النقل بشكل آمن. تمتاز هذه الفعاليات في أنها تتناول مواضيع تتقاطع مع القضايا التي تعمل عليها الحملات، كما تمكنهم من التعرف إلى أشخاص جدد، قد يصبحوا أعضاء مستقبليين أو قادة للحملة.
مثلما يمكن للحملات أن تنظم الفعاليات والأنشطة بهدف الحشد، يمكن للتكتيكات الواسعة أيضًا أن تدعم عملية الحشد بشكل غير مباشر. فالمجتمع الأوسع لأهل القضية، من المتفاعلين مع أنشطة الحملة وتكتيكاتها، مثل توقيع العرائض وتوزيع المنشورات وحضور الوقفات الاحتجاجية، هو مصدر متجدد لانضمام أفراد جدد، في حال استغلت الحملة الفرصة لجمع بياناتهم والتواصل معهم. أما على الصعيد الرقمي، تتيح مواقع التواصل الاجتماعي خيارات متعددة للتواصل مع شريحة واسعة من الأفراد من المهتمين بالتطوع لأداء مهمات محددة في الحملات (مثل تصميم الصور أو التغطية الصحفية، إلخ)، أو المشاركة في الحملة بشكل رسمي.
نشر حراك “أرفض شعبك بحميك” استبيانًا لدعوة الأفراد إلى الانضمام إليه، صيغ ليشمل أسئلة عامة وأخرى محددة تساعدهم في استكشاف موارد ومهارات الأشخاص المتقدمين. الاستبيان بحد ذاته ليس تكتيكًا للحشد، لكن “فلترة الخيارات” والتواصل مع المتقدمين والتعرف إليهم ونيل التزامهم، هو خطوة تجعل الاستبيان فعّالًا على أكثر من مستوى.
اتّبعت حملة “قم مع المعلم” تجربة مميزة في حشد الأعضاء من خلال رحلة التعلم الشعبي، نهج أسسه المفكّر البرازيلي باولو فريري، وهو جزء من مدرسة التعلّم التحرري التي تعارض التعلّم البنكي التلقيني الذي يمنع الأفراد من التحرّك والتصرّف، ويضعهم في منظومة قائمة على القهر. يقوم التعلم الشعبي على توفير مساحة تعلّمية لتفتيت أسباب الخوف وتحفيز التصرف، بعيدًا عن مركزية المعلم والخبير. ويعتبر فريري أن الأساس للتحرر هو الخبرة والتجربة الشخصية والتأمل في التجارب، لصحوة الوعي الذاتي وتحفيز الفاعلية الذاتية.
عقدت حملة “قم مع المعلم”، في عام 2017، خمس جلسات في عمّان، وست حلقات في الزرقاء، دعت إليها مجموعة من معلمات المدارس الخاصة ممن شاركن مع الحملة سابقًا في تدريب معرفي عنوانه “كيف تكونين معلمة قيادية؟”، بحضور مجموعة من الميسّرين.ات. اعتمد مبنى الجلسات والحوار مع المعلمات على التجربة والقصة الشخصية باعتبارها أساسًا لتحفيز الوعي والتصرف، فمثلًا، في موضوع التسلط الذي أُثير في الجلسات، لم يُكتفى بالنقاش فحسب، بل أُثيرت التساؤلات والتفكير بالتزامات شخصية واستنباط التعلم من الجلسة. تعتمد حملة “قم مع المعلّم” التعلّم الشعبي في نهجها، فترفدها هذه الرحلة التعلّمية بقاعدة معلّمات أكبر. بعد التجربة الأولى، يسّرت 27 معلمة قيادية حلقات التعلم الشعبي لـ 13 فريقًا من المعلّمات، مدة الحلقة ساعة ونص، وتيسّرها معلمتان، وتقام مرتين في الشهر. ساعد هذا المسار في دعم المعلمات بالقوة والمعرفة والوعي، وعزز ثقتهن ببعضهن البعض، وفي حصولهن على تدريبات في مهارات التدريس، وفي قانون العمل، بالإضافة إلى تمكين الأفراد ومساءلة تصرفاتهم وايجاد القياديين.ات من أجل حشدهم للحملة.
تحيط بمهمة الحشد أسئلة كثيرة، حاولت هذه الورقة الإجابة عن اثنين منهما فقط، الأول: أين نجد أهل القضية ممن يمكنهم الانضمام إلينا في قيادتنا لحملاتنا؟ نجدهم ببساطة في أماكن تواجدهم؛ والثاني: كيف نحشدهم؟ بكل أشكال اللقاءات الفردية والجماعية، التقليدية والإبداعية. أساليب الحشد غير قابلة للحصر، كما أنها غير قابلة للتعميم، حيث يمكن للحملة أن تختار الأسلوب المناسب لها بناءً على القضية، والفترة الزمنية التي تمر بها، خصوصًا أن عملية الحشد نوعية، أي، لا تسعى لاستقطاب أكبر عدد ممكن من الأفراد على حساب الجودة.
المراجع
Aiello, E. (2021). Public Narrative and Its Use in the Stand Up with the Teachers Campaign in Jordan- QMM. Retrieved from: https://ash.harvard.edu/publications/public-narrative-and-its-user-stand-teachers-campaign-jordan-qmm
Chomsky, N. (2015). 10 strategies of manipulation by the media. Retrieved from: https://www.demenzemedicinagenerale.net/pdf/14-10-strategies-of-manipulation.pdf
Foucault, M. (1988). Power Knowledge. Random House.
Freire, P. (2000). Pedagogy of the oppressed. New York :Continuum.