كيف نحفّز حملاتنا على الاستمرار بالنضال؟

دروس من تجارب حملات سياسية وعمّالية واجتماعية

بقلم: أفنان أبو يحيى

تمر الحملات خلال مسار عملها في مراحل من الإحباط، قد تقودها إلى الركود، إن لم يتم استنهاض الهمم، خاصة في الظروف السياسية الصعبة، وتحديات حشد الناس وتنظيمهم في جسم يقودهم ويمثلهم، والتأخّر في تحقيق الهدف، ومواجهة الأزمات في ثقافة الفرق، والعمل عن بعد لفترة طويلة من دون لقاءات وجاهية أو تكتيكات ميدانية. تعزيز الحافزية لدى الحملات ليست وصفة جاهزة يمكن إعدادها بسهولة اتّباع الخطوات والمقادير، وليست قابلة للحصر في نقاط وخطوات واضحة. جاءت هذه الورقة التعلمية لمناقشة توصيات وتجارب ناجحة عززت الحافزية لدى قياديي.ات الحملات، خلال حوار عُقد في تشرين الثاني 2022، وشاركت فيه 18 حملة تعتمد نهج التنظيم المجتمعي في الوطن العربي.

التكتيكات على الأرض

تُعيد التكتيكات المتتابعة للحملات زخم العمل، مثل الفعاليات والأنشطة التنظيمية أو المطلبية للحملة، حيث يشعر كل عضو بدوره في السعي لتحقيق الهدف، وبالالتزام تجاه القضية، خاصة حين لا تكون فترة طويلة بين تكتيك وآخر، فتبقى الطاقات في أوجها. تقول هبة من حملة “ابني” عن هذه الحالة: “الفِرق كلها نار ومولعة”، في وصفها أحد تكتيكات الحملة التي سبقت خبر توقيع اتفاقية مع وزارة الصحة، لتأهيل 12 مركز صحي لخدمة ذوي الإعاقة، إذ ينغمس الفريق في العمل وتنفيذ التكتيكات، ويخلق جوًا ملؤه الحماس، يشجع حتى الأشخاص غير الفاعلين بشكل عام في الفريق، فالجميع يريد أن يساهم في الإنجاز، وأن يكون جزءًا من الاحتفال بالنجاحات.

إن السعي بشكل قصديّ باتجاه تنفيذ التكتيكات المتتابعة التي تراكم على بعضها البعض، مثل تكتيك إعداد قاعدة بيانات، ثم تكتيك التواصل مع أهل القضية عبر هذه القاعدة، ثم دعوتهم إلى إرسال رسائل نصية ضاغطة على صانع القرار، ثم حشد أعضاء جدد للحملة، يتحدى الواقع المحبط بطريقتين: الأولى، هي أن التكتيكات المتتابعة تؤدي إلى تعزيز الحافزية، مثلما قد يؤدي الدفع المستمر لسيارة معطلة إلى تحريكها، فإذا افترضنا أن حركة السيارة هي عمل الفريق، فإن شحن البطارية هي الحافزية؛ الثانية، هي أن تكتيك حشد الأعضاء الجدد وعقد لقاءات 1:1 يجدد الالتزام ويخلق تنوعًا في وجهات النظر، ويغني النقاشات ويحفّز الفريق. تقول سمر من حملة “الأقصى كل السور”: “إن وصف أثر التكتيكات على الأعضاء يمكن أن يتم بكلمة واحدة هي: الدينمو، وهو شعور يخلقه الإنجاز، والفاعلية، والتشجيع، والمتابعة المكثّفة، وشحذ الهمم، وتجاوز التوترات البسيطة، خصوصًا خلال اجتماع الفريق في مكان واحد.

تحقيق النجاحات

عندما تحقق التكتيكات أهدافها في الضغط أو التغيير، وتفلح في تحقيق نجاحات فرعية تصبّ في خدمة نجاح الهدف الأكبر، تشعر الحملات بطاقة الاحتفال، وتمتلئ الفرق بالحماس لتحقيق المزيد، بعد تجاوز المخاوف والقلق من ردة الفعل. تصف ثريّا من حملة “بنقدر نوصل” نجاحها عندما عقدوا أول ثلاثة لقاءات منزلية قائلة: “شعرت وكأني طايرة بالسما”، وهو ما حفزها للانهماك في العمل، وتعزيز الشغف، وعقد لقاءات دورية، لتنتقل الحافزية إلى الفريق كله، ولا يكون النجاح مجرد لحظة غير مستدامة تنقضي بانقضاء الحدث.

وعلى النقيض من ذلك، تواجه بعض الحملات حالة من الركود بعد تحقيق النجاحات، إما بسبب فراغ الخطة، فلا تأخذ تلك الخطة بعين الاعتبار تحديد تكتيكات جديدة لضمان الاستمرارية بعد تحقيق نجاحٍ ما، أو بسبب انتظار استجابة طرف جديد في القضية، مثل موافقة وزارة رسمية على هدف الحملة، من دون تحديد خطة لتنفيذه، أو ميزانية واضحة مرتبطة به. ولذلك، على أعضاء الحملات التفكير بخطواتهم القادمة بشكل استباقي، وتوقّع السيناريوهات المختلفة، حتى في ما يتعلق بتحقيق النجاح الذي يجب الاستثمار فيه، وفي طاقة الاحتفال به، لشحن الفريق من أجل التحركات التالية.

لمة لاستخلاص التعلم في الأزمات

قد لا تكون الأزمات التي تواجهها الحملات أفضل نتيجة لجهدهم المنظّم، لكنها تختبر تماسك الفريق وإيمانه بالفكرة. “العمل المدني يحتاج لنفس طويل، وهو حافل بالمصاعب”، كما تقول ناريمان من حملة “قم مع المعلم”. لكنّ الفشل أو تأخر تحقيق النجاح قد يكون فرصة لاستخلاص التعلم وزيادة الحافزية، خصوصًا في حالة الحملات التي تستمر مدة طويلة، مثل الظروف الصعبة الضاغطة التي واجهتها حملة “قم مع المعلم”، لكن المطالبة بالحقوق العمالية المنتهكة للمعلمة ربى، وهي معلمة توفيت على رأس عملها، ساهم في إعادة تنظيم العمل وزيادة حافزية لجنة الشكاوى، والضغط حتى نيل حقوقها بأثر رجعي.

إن الأزمات وحدها، لا تنتج الحافزية، لكن استغلالها في جمع أعضاء الفريق والتأمل بالمشكلة واستخلاص العبر، يساهم في خلق طاقة تشاركية وشعور بالمسؤولية الجماعية، وهو ما يقوّي شعور الانتماء إلى الحملة، ويعزّز الحافزية لمواجهة التحديات بآليات مبتكرة، وربما الخروج بتحركات جديدة أيضًا. لا يعني هذا بالضرورة أن كل نقاش للتحديات، هو حديث صريح وعميق وبنّاء، لأن ذلك يعتمد على جودة الحديث، وقدرته على إشراك الجميع، والاستماع لمشاعرهم، والتفكير بالتصرف الأفضل، والقدرة على أخذ قرار بتنفيذ تكتيك أو نشاط يعالج الأزمة، ولا يتجاهلها.

واجه حمزة من حركة “الأردن تقاطع” أكثر أيام حياته احباطًا عندما استشهدت الإعلامية شيرين أبو عاقلة برصاص الاحتلال الإسرائيلي، فيقول عن ذلك: “شكل هذا الخبر مأساة على الجميع. شعرت بالهزيمة وفقدت قدرتي على مواجهة الناس”. لكن اجتماعًا موسعًا عقدته الحركة للتفكير في المرحلة ومشاركة المشاعر الإنسانية، جعل الفريق أكثر قربًا، وحسّن العلاقات بينهم، وعزز شعورهم بالمسؤولية تجاه وجودهم في الحركة. الأمر نفسه تكرر في شبكة شباب التغيير عندما واجهوا أزمة في قيادة الفريق، وتملكهم الإحباط وخيبة الأمل، لكن طريقة تعاملهم مع القضية من خلال اجتماعات أساسها تبادل الآراء بصراحة حول الأزمة، ومشاركة قصص من تجربة الحملة والقضية، جعلهم فريقًا أقوى من قبل.

الاتصال والتواصل الحثيث مع أهل القضية

تُنظَّم الحملات بقيادة أهل القضية للدفاع عن قضايا حقوقية، وهم يحملون على عاتقهم مسؤولية تمثيل تلك القضايا ومن عقدوا آمالهم على أهداف الحملة وعملها. شعرت ناريمان من حملة “قم مع المعلم” بهذه المسؤولية وثقلها عندما توجهت لمنزل المعلمة الراحلة ربى حيث وجدت والدة المعلمة تقول لها: “بحط حق ربى بين إيديكي”، كما أدركت ناريمان أهمية دورها في تمثيل ودعم أهل القضية، بعدما خذلت الجهات الرسمية المعلمات في المدارس الخاصة، وتمكنت من تحويل هذه اللحظة مصدر قوة وحافزية، باعتبارها جزءًا من أهل القضية الذين لطالما واجهوا انتهاكات عمّالية. تتعزز هذه المسؤولية عندما يأخذ كل عضو من أهل القضية الحملة بشكل شخصي، لا يؤثر فيه فقط، بل على الآخرين، فيكون التنكر لهمومهم، خذلانًا لأهل القضية، فيدافع بكل قوته عن حقوقه الكاملة.

تتجلى أهمية التواصل والانتماء إلى القضية من خلال تجربة رحمة، من حركة “أنا زادة”، وشعورها بالحافزية عندما شاركت في احتجاج للمؤسسات النسوية على خلفية تحرش النائب زهير مخلوف بفتاة في الشارع، حيث واجهت رجال الأمن ممن طلبوا منها خفض صوتها عند الاقتراب من المحكمة، فأخبرتهم “صوتنا يعطل المحكمة، لكن ثمة إنسانة حياتها 3 سنين متعطلة!”. شعرت رحمة في تلك اللحظة بعمق انتمائها إلى أهل القضية، وبأن ما حدث مع زميلتها قد يحدث معها إن هي لم تساهم في التغيير.

التكاتف المجتمعي

تحاول الحملات جاهدة العمل بشكل منظم ومؤسساتي لتحقيق الأهداف وضمان الالتزام، إلّا أن ما يجمع أعضاء الحملة بموجب عدالة القضية والقيم المشتركة، يتجاوز إنجاز المهمات وتنفيذ التكتيكات، ويخلق حالة إنسانية من التآلف والتضامن بين الأعضاء، كما لو أنهم أسرة واحدة. يحفز هذا الالتزام الأخلاقي شعور الأفراد بأهمية الاستمرار في العمل، ويجعلهم أكثر إيمانًا بقدرتهم. تمكن أعضاء شبكة شباب التغيير من مساعدة بعضهم البعض، وتأمين احتياجاتهم من المأكل والمشرب والمسكن في ظل الظروف الصعبة التي فرضها التهجير عليهم، لكنهم ما زالوا يستذكرون هذه اللحظات الدافئة عند ظهور التحديات، لاستعادة الطاقة وتشجيع الفريق.

لا تنعكس حالة التكاتف المجتمعي على علاقات الأفراد في الحملة الواحدة، بل بالتزام الحملة الأخلاقي تجاه كل القضايا العادلة التي تتقاطع معها، وهو ما يرفع من حافزية العمل، ويعزز من قيم النضال. ترى روان، من حملة “ابني”، أن حملتهم تجاه التأمين الصحي لم تمنعهم من التفاعل مع الاستياء الواسع من جراء حرمان أحد الأطفال ذوي الإعاقة من حقه في اللعب في مدينة ملاهي، رغم أنهم كانوا في ذروة التحرك بالتكتيكات، لأن نضالهم في سياقات أوسع جعلهم يؤمنون أكثر بدورهم في التغيير، وبأثر ما يقومون به في أصعدة مختلفة. إن معرفة المزيد عن الحملات الأخرى التي تتشارك معها في القضية و/أو القيم عن طريق اللقاءات الوجاهية، أو المواد الصحافية التي توثق التجربة، يعزز شعور الأعضاء بأنهم ليسوا وحدهم، وأن النضال الذي ينخرطون فيه هو جمعيّ، لا تقوده المصالح الفردية، وتراكمي، يحتاج منهم مواصلة الجهود والبناء عليها.

إن اختيار الأسلوب الأفضل لتحفيز الأعضاء يعتمد على قصة الحملة وتسلسلها الزمني واختيار التصرفات التي تعالج سبب الإحباط. إن إدراك سبب غياب الحافزية يساعد في اختيار الطريقة الأفضل لمعالجتها، بعيدًا عن الحلول السريعة محدودة التأثير. من المفيد أن تعقد الحملات حفلة غناء جماعي، أو تخرج في نزهة على سبيل المثال، لتثمين الجهود وقضاء الوقت الممتع، لكن تنفيذ هذه التكتيكات قد لا يعالج سبب الفتور في العمل، إذا لم تكن مرتبطة بشكل أساسي بالمشكلة. فمثلًا، إذا كان غياب الحافزية مرّده ضعف التواصل بين أعضاء الفريق، والافتقار إلى الجو الأسري في العمل، أو الرسمية المبالغ فيها، قد تكون الرحلة مفيدة لكسر الجمود وتجاوز هذا التحدي، لكنها لا تكون مفيدة لمعالجة مشاكل مثل ضعف الالتزام، أو قلة الوعي بالقضية.

لضعف الحافزية أسباب كثيرة، قدمت هذه الورقة التعلمية خمس طرق يمكن للحملات من خلالها استعادة تلك الحافزية وإيقاظها لدى فريق الحملة، وحثّهم على الاستمرار في النضال والمطالبة بالتغيير، عن طريق الأساليب المختلة، ومنها: التكتيكات المتتابعة على الأرض، وتحقيق النجاحات، واستخلاص التعلّم خلال الأزمات والتحديات، والاتصال والتواصل الحثيث مع أهل القضية، والتكاتف المجتمعي ما بين أعضاء الفريق. يظل المنظمون والقادة المجتمعيين يبحثون عن بصيص الأمل، حتى في حالات الإحباط، كما حصل مع إيمان من “شغلي بايدي”، وهي حملة تُعنى برفع أجور العاملات المنزليات في لبنان، ففي اللحظات التي كانت تفكر في إيقاف الحملة، خوفًا من إلحاق الضرر بأهل القضية، تقول: “وصلني هاتف يخبرني أن إحدى العاملات المنزليات نجحت في التفاوض مع صاحب العمل وحصلت على حقها في الأجر. حينها، أغلقت الهاتف وكلي تصميم على الاستمرار بالحملة”.

https://ahel.org/wp-content/uploads/2021/02/KayfButton100bigger.png