عندما يبدأ الناس نضالهم لتغيير قانون يقيّد حياتهم أو ينتهك حقوقهم، ينطلقون عادةً من إيمان عميق بقوّة الصوت الجماعي: عرائض، احتجاجات، حملات رقمية… هذا هو موردهم الأول. لكن التجربة في المغرب علّمتني أن تنظيم هذا المورد، أي تنظيم الناس لقوتهم، هو الأساس. غير أن هذه القوّة لا تترجم إلى تغيير فعلي إلا حين تُوجَّه نحو من يملك القرار الحقيقي.
أشارككم في هذه المساحة بعضاً من تجربتي من ساحات المدن إلى أبواب الوزارات، ومن حملات عشتها أو تابعتها عن قرب. تعلّمت من خلالها أن معادلة النجاح في النضال المجتمعي لتغيير القوانين تقوم على ركنين: بناء قوّة الناس، ثم فهم موازين القوى وتحديد مركز القرار الفعلي. هذه المعادلة ليست تكتيكًا فقط، بل مدخل لإعادة توزيع القوّة وخلخلة موازين السلطة. فقوّة الناس لا تتجلّى فقط في الأعداد، بل في التنظيم والقدرة على توجيه الضغط نحو الحلقة الصحيحة من السلطة.
فيما يلي ثلاث محطات رسّخت هذا المعنى داخلي:
عريضة الحياة: أوّل درس من السلطة
قبل 2019، كنت أظن أن التغيير مرهون فقط بمدى تنظيم الناس وتكاتفهم. لكن حملة “عريضة الحياة”، التي أطلقها الأستاذ عمر الشرقاوي لإنشاء صندوق وطني لدعم مرضى السرطان، غيّرت هذا الاعتقاد. شاركتُ وآلاف المتطوعين في جمع أكثر من 40 ألف توقيع خلال أيام، وامتدّت لجان الحملة إلى كل المدن، على أمل أن يفتح البرلمان أبوابه أمام هذا الزخم الشعبي.
لكن الحلم توقف عند بوابة الحكومة، التي رفضت إحالة العريضة إلى البرلمان. عندها اكتشفنا أن احترام المساطر القانونية وكثرة التوقيعات لا يكفيان دائمًا، وأن هناك دائمًا “صاحب قرار” خفي، قد لا يكون حيث نظن. تعلّمت أن النضال، مهما كانت قضيته نبيلة، يحتاج إلى إدراك دقيق لمراكز القرار الفعلية.
خارجة عن القانون: حين لا يكفي وضوح الهدف
في 2022، أعادت مأساة الطفلة مريم قضية تقنين الإجهاض إلى الواجهة بعد وفاتها نتيجة عملية إجهاض سرّي فرضها واقع الاغتصاب والصمت. ائتلاف “خارجة عن القانون” ركّز جهوده على وزارة العدل باعتبارها الجهة المسؤولة عن تعديل القانون، ولم يشتت نضاله بين مؤسسات مختلفة.
لكن رغم وضوح الهدف، بقي الزخم محدودًا. لم تتمكن الحملة من تحويل الغضب الشعبي إلى طاقة جماهيرية منظّمة قادرة على فرض التغيير. وهنا تعلّمت أن تحديد مركز القرار لا يكفي، بل لا بد من بناء قاعدة قوية، وتنظيم الناس حول القضية، وتوسيع المشاركة الشعبية. فالتغيير يحتاج إلى دقّة الاستهداف، لكنه لا يتحقق من دون حشد وتنظيم.
المحامون: معادلة التغيير تتحقق
في صيف 2024، قدّم المحامون نموذجًا متكاملًا لمعركة تغيير القانون. حين صادقت الحكومة على مشروع قانون المسطرة المدنية دون إشراكهم، نظّمت الهيئات المهنية للمحامين صفوفها في مختلف المدن، وأطلقت إضرابًا شلّ عمل المحاكم. حدّدوا وزير العدل كصاحب القرار، وركّزوا الضغط عليه مباشرة.
كان التنظيم دقيقًا، والتكتيكات فعّالة: قاطعوا الجلسات وحرّكوا الرأي العام من خلال تسليط الضوء على “عدالة معطّلة”. تحت هذا الضغط المنظم، اضطر الوزير إلى الجلوس معهم، وأدخل عددًا من مقترحاتهم إلى القانون. هنا رأيت بوضوح أن النضال المجتمعي ينجح حين تلتقي قوّة التنظيم الشعبي مع وضوح الهدف السياسي.
في الختام…
علّمتني هذه التجارب أن تغيير القوانين لا يتحقق بالصوت العالي ولا بالأمل وحده، بل بالقدرة على تنظيم الناس حول هدف واضح، وفهم دقيق لمراكز السلطة، والمرونة في تعديل الاستراتيجيات بحسب السياق. النجاح لا يُقاس بعدد التوقيعات ولا بحرارة الشعارات، بل بمدى التأثير الذي تحدثه القاعدة الشعبية المنظمة في دوائر القرار.
كل حملة خضتها أو تابعتها رسّخت لدي قناعة واحدة: التغيير معركة وعي وتنظيم وواقعية. كلما فهمنا هذه المعادلة، كلما اقتربنا من لحظة يكون فيها القانون أداة بيد الناس، لا سيفًا مصلتًا عليهم.
عبد اللطيف العسري، ناشط أمازيغي مغربي، يعمل منذ أكثر من عشر سنوات في تنظيم الحملات المجتمعية للدفاع عن الحقوق. عضو قيادي في شبكة “أثر” وجزء من فريق المدربين في مؤسسة “أهل”، متخصص في بناء قدرات التنظيم والعمل الجماعي.