بناء القدرات

كيف يكون التدريب مكوناً مهماً من مكونات التغيير الاجتماعي؟

بقلم: أشرف حمزة

بالرغم من أن أغلب الجمعيات والمؤسسات -التي تقدم التدريبات- تضع ضمن أهدافها استمرار التعلم والأثر  بأسلوب أو بآخر، وبالرغم من كل المحاولات لجعل التدريبات مركزة ومتتالية للمشاركين، إلا أنه من النادر أن ترى هذه المؤسسات نتائج مباشرة وفورية. الذي يحصل فعليا،ً هو أن تقوم هذه التدريبات بإطلاق قيادة أحد هؤلاء المشاركين في مشروع معين أو حملة ما. ولكن ما هي نسبتهم؟ وكم تدريب يجب علينا أن نقدم حتى ننمي أو نطلق قيادة فرد واحد من كل 50 أو 100 مثلاً؟ هل التدريبات أو ورشات العمل هامة للتغيير الإجتماعي؟ وماهي الطرق البديلة التي يمكن أن تسهم بشكل أكبر في التغيير؟ وإن كان التدريب واحداً من هذه المكونات -وهو المعتمد من قبل العديد من المؤسسات العاملة في الميدان- فما الذي يجب مراجعته وتعديله  لتصبح أكثر فعالية وقدرة على خلق القادة والمساهمة في التغيير الاجتماعي؟

واجهت السؤال الأول -أي عنوان المقال- أثناء مساعدتي لأحد الأصدقاء على تقديم طلب للاشتراك بورشة عمل مستوى متقدم في التدريب، وقد وجدته مثيراً للاهتمام ويستحق الإجابة بتعمق أكثر. فيما يلي أقدم وجهة نظر مبنية على تجربة شخصية كمتدرب، ومدرب، وموظف ضمن منظمات أو جمعيات عملت لتحقيق التغيير الاجتماعي، واعتمدت التدريب كأحد أهم المكونات. كما أذكر مثالين أعتمد عليهما في طرح بعض الأسئلة الإضافية.

أبدأ منطلقاً من قناعة أو اعتقاد بأن التدريبات تسهم في بناء قدرات المشاركين كأفراد وتمكنهم ضمن مجالات مختلفة، فتقدم طيفاً واسعاً من المهارت والمعلومات التي تساعد الأفراد على تخطي تحديات معينة يواجهونها، أو تمكّنهم من التفكير بحلول جديدة لتخطيها.

لكن يمكننا أيضا التأمل بالورشات كمساحات آمنة للتفكير الخلاق، وذلك على صعيد مجموعة المشاركين ككل، فمن خلال تواجد المشاركين لعدة أيام في مكان واحد، تقدم الورشات فرصة لبناء شبكات اجتماعية، وهذه الشبكات هامة لعدة أسباب، فهي تسهم في تيسير نقل الخبرات بين المشاركين وخلق تفكير جمعي، بالإضافة إلى الانفتاح على آراء وأفكار ومقاربات مختلفة للتحدي أو الموضوع، وخصوصاً إذا كان هدف أو محتوى التدريب ملحّ ويمسّ تحدٍّ مشترك لدى المشاركين. والاعتقاد الثاني هو أن هذه الشبكات تعتبر عاملاً أساسياً في عملية التغيير الاجتماعي، والتي تسهم بالتشارك مع التدريبات بتقديم فرصة “للقادة المجتمعيين بالفطرة” لبناء قدراتهم القيادية والانتماء لفرق متفقة قيمياً تعمل نحو هدف مشترك.

وبالعودة للتجربة الشخصية أذكر هنا مثالي الأول، وهو العمل مع مشروع “منتدى المنظمات غير الحكومية”، وهو مشروع تابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP، كان هدف هذا المشروع إنشاء منظمة مجتمع مدني “منتدى المنظمات غير الحكومية” والتي تضم في عضويتها منظمات وجمعيات سورية، بدلاً من الأفراد وتعمل على دعم عمل كل منها بمساهمة الباقين، وتشكيل تحالفات حول قضايا أو مواضيع معينة (مجموعات نوعية)، أو تحالفات جغرافية لتحقيق تغييرات حقيقية وتوحيد الجهود. كان هذا هو هدف المنتدى، أما المشروع التابع للأمم المتحدة فكان الهدف منه هو بناء المنتدى، والتأكد بأنه يمتلك مقومات الاستمرار بعد انتهاء المشروع. استمر العمل على المشروع مدة 5 سنوات، كان لي منها الـثمانية أشهر الأخيرة فقط، حيث عملت كمساعد لمدير المشروع في الاتصال والتواصل مع أعضاء الشبكة، وقد أتيح لي وقتها الاطلاع على معظم نشاطات المشروع والمنتدى في السنوات السابقة، بالإضافة للمساهمة في تشكيل وصياغة مسودة النظام الداخلي لثلاث مجموعات نوعية: (مجموعة حل النزاع، ومجموعة الاستجابة الطارئة للاحتياجات)، وجغرافية (المجموعة الجنوبية). مساهمتي مع هذه المجموعات كانت تتركز في تيسير جلسات أخذ القرارات، وتوثيق المخرجات والنتائج ومشاركتها مع الباقين، بالإضافة إلى متابعة تنفيذ النشاطات لرفعها في تقارير دورية لمدير المشروع من ثم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

بعد هذا التفصيل في شرح طبيعة المشروع وطبيعة علاقتي معه، أرغب بالتعليق على نقطتين هما:

📊 خطط دعم المشروع للجمعيات الأعضاء في المنتدى

📊 خطط المجموعات النوعية والجغرافية

في النقطة الأولى، كان الثقل الأكبر منها عبارة عن تدريبات يقدمها المشروع للجمعيات ولمن تنتدبه لحضورها، وللجمعية اختيار المشاركين فالعضوية هي عضوية الجمعية وليست المشارك. وكانت الأنشطة الخارجة عن إطار التدريبات محدودة جداً وتتمحور غالبها ضمن إما تقييم عمل الجمعيات، وبالتالي حاجتهم للتدريبات الجديدة، أو تشكيل مجموعات العمل (النوعية أو الجغرافية). وأعزي السبب في هذا إلى ثلاثة عوامل رئيسية :

١. ضيق مساحة العمل المدني في سوريا، وعمل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تحت إشراف مباشر من وزارات الدولة وبموافقتها حصراً، مما يجعل التدريب أسهل المنافذ للخروج من هذا الحصار.

٢. ضعف المجتمع المدني السوري –ولأسباب عديدة منها السبب الأول، مما جعل مهمة إقامة منصة (المنتدى) شبه مستحيلة بدون أرضية أساسية متفق عليها.

٣. للتدريبات  أهداف سريعة التحقيق وذات مخرجات مباشرة يمكن قياسها، ويمكن بناء خطط مستقبلية عليها دون الوقوع في فخ التأجيل أو الخطط طويلة الأمد أو بعيدة الأثر.

أما خطط المجموعات النوعية والجغرافية، فاعتمدت أيضاً في غالبيتها على التدريبات ولأسباب لا تختلف عن الأولى. فإذا كانت الأمم المتحدة لا تستطيع التحرك بدون موافقة الوزارات فكيف بالجمعيات، أضف إلى ذلك ضعف تجربة العمل المدني، وبناء التحالفات أو توحيد الجهود، ورغبة الجمعيات بتحقيق نجاحات سريعة إما للحصول على تمويل جديد، أو إظهارها بوضعية الجمعيات النشيطة. ولذلك بقي العمل ضمن المشروع والمنتدى محصوراً تقريباً بأغلبية كبيرة في إطار ورشات العمل التي تقدمها الجمعيات لمتطوعيها أو المشروع للجمعيات، وأذكر هنا التجربة الوحيدة التي شهدتها، وقادها المنتدى كتحالف جمعيات مدنية و أهلية ضد القانون الجديد الناظم لعمل الجمعيات، والذي تم بمبادرة وقيادة مدير المشروع، وبعد جهود كبيرة وبحماية من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

انتهى مشروع الأمم المتحدة في شهر أيلول من العام 2012، ولكن استطعت متابعة العلاقة مع بعض المشاركين، أو ممثلي الجمعيات، والذين قاموا بعد تغير الوضع في سوريا وخروج مناطقهم من سيطرة النظام بنقل وتطبيق ما تعلموه لجمعياتهم، أو مجموعات عملهم الحالية، وبطريقة مبتكرة أحياناً وأفضل مما كان عليه الوضع تحت دعم المشروع. وكأنه بتغير الظرف الراهن في سوريا والذي أعطى مساحة أوسع للتحرك في بعض المناطق، أو خارج سوريا أطلق العنان لقدرات هذه الجمعيات ومشاركيها في العمل. والسؤال هنا، هل كان الوضع سيكون مشابهاً لهؤلاء المشاركين لو لم يقم المشروع والمنتدى بعقد هذه التدريبات؟ وهل كان من الأفضل للمشروع الاستثمار ضمن مجال آخر آخذين بعين الاعتبار الظروف السائدة؟

المثال الثاني: هو العمل مع أهل  وأركز فقط على نمط الورشات المفتوحة التي تقدمها أهل، وفيه يتم الإعلان عن الورشة عبر أهل أو أحد المؤسسات الشريكة للراغبين بالتسجيل. في هذا النوع من الورشات تحديات مختلفة أهمها يكمن في صعوبة اختيار المشاركين المناسبين لإطار العمل، وصعوبة تحديد الحملة التي يرغب المشاركين خلال الورشة بنمذجة التعلم عليها، كما أنها تمثل تحدياً للميسرين من ناحية موازنة التعلم مع الواقع، بما يتعلق بالتزام المشاركين وعمق الأفكار والنقاشات، فهذا النمط من التدريبات نادراً ما ينتج حملات حقيقية يتابع فيها المشاركون.

ولكن حصل أن انطلقت بعضها كمثال حملة “نواب شباب” في سوريا والتي أطلقتها مع بعض المشاركين في هذا التدريب المفتوح، وحملة “طبق نظامك” التي انطلقت بعد مشاركة مجموعة من شباب المخيمات الفلسطينية في لبنان في تدريب مفتوح مع مؤسسة الجنا في لبنان.

والسؤال، هل كان بالإمكان إطلاق مثل هاتين الحملتين وغيرهما لو لم تقم أهل بهذا النوع من الورشات؟ لا أتطرق هنا إلى موضوع بناء القادة، فأسلّم بدون الدخول في التفاصيل بأن قادة هذه المبادرات هم قادة مجتمعيون بشكل أو بآخر، وممن لديهم حس مجتمعي معين ولم يتحركوا من قبل لأسباب مختلفة منها مثلاً عدم معرفتهم بطريقة مجدية للوصول إلى حل، أو عدم إيمانهم بقدرتهم، أو عدم امتلاك المهارات الكافية. ولكن هل كان من الممكن الحصول على هذه المعلومات والمهارات بغير التدريب؟ وهل كان بالإمكان توظيفها في وقت الحاجة بهذا الشكل؟ والأسئلة نفسها تطرح على فكرة الحملات المجتمعية أو غيرها من طرق التغيير، هل كان من الممكن لهؤلاء القادة تبني أطر عمل معينة، لو لم يصدف تواجدهم ضمن ورشات مشابهة؟ ولكن بالمقابل تماماً يُطرح سؤال آخر، هل يستحق كل هذا الاستثمار لاكتشاف قيادي أو اثنين من كل مئة شخص، أم أن الأولوية  تكمن بأن تقوم هذه الجمعيات بتخفيض نفقاتها في هذا الإطار على حساب برامج أو أساليب أخرى؟

يحصل أحياناً أن تقوم أهل بدعم حملة وتدريبها، ومن ثم بعد انتهائها أو خلالها يقوم البعض بإطلاق حملة جديدة في موضوع مرتبط أو مختلف، هذا يثبت أن اكتشاف القيادات وتنميتها يمكن أن يتم بغير التدريب، فهؤلاء اكتسبوا خبراتهم وقدرتهم عبر المشاركة في حملة وتعلموا عبر النمذجة، بل واعتمدوا أيضاً على المجتمع وأحياناً النجاح الذي ولدته الحملة الأولى،  مما ساهم في تمكينهم بشكل أكبر. ولكن هل يمكن تطبيق هذا النموذج كبديل مطلق للورشات المفتوحة؟ وكيف يمكن إطلاق حملتين متل “نواب شباب” و “طبق نظامك” في مكانين لم يحدث فيهما إطلاق حملات من قبل ؟

وإذا كانت التدريبات أو الورشات هي الطرق الأكثر اعتماداً من قبل هذه المؤسسات، فكيف يمكن تصميمها وتعديلها لتصبح أكثر قدرة على إطلاق القيادات وتمكينها وجعلها أكثر مواءمة لواقعهم الحالي؟ فمثلاً في الوضع الراهن لسوريا اليوم، لا يمكن المقارنة بين العقبات أو التحديات التي تواجه إطلاق حملة داخل سوريا، وحملة خارجها. أو حملة يقوم بها سوريون في الأردن وحملة يقوم بها أردنيون في الأردن. وبالتالي كيف يمكن تعديل التدريبات التي تقدمها المؤسسات للطرفين على التوازي، بحيث تقدم لكل طرف حاجته وتمكنه بأفضل أسلوب، فتنمي مثلاً قيادة وقدرة السوري المشارك من داخل سوريا لينتفض في اللحظة المناسبة مطلقا أقصى إمكاناته. وهل من الأفضل تقديم تدريبات استفزازية تحفزهم لقيادة حملة، أو تدريبات بناء قدرة تخلق قيادتهم وتنمّيها؟

في الختام، وبعد ذكر المثالين يبقى في ذهني سؤالين أخيرين أود طرحهما. الأول هو هل يستحق هؤلاء القادة مؤسسات تقوم بالبحث عنهم وإطلاق وتنمية قيادتهم؟ والثاني هو إن رغبت هذه المؤسسات بالقيام بهذا العمل دون الاعتماد على التدريب، فما هي الطريقة، وكيف يمكن الموازنة بين الأساليب المختلفة التي يجب اتباعها لاكتشاف وتمكين هؤلاء القادة؟

https://ahel.org/wp-content/uploads/2021/02/KayfButton100bigger.png