يظل التساؤل حول سر نجاح الحملات أو تباطؤها مطروحاً في عالم الحملات والمبادرات المجتمعية، وفي كل مرّة أظن أنني وجدت السر أعود لأدحضه بجواب آخر. ورغم علمي التام بأنه لا وجود لإجابة محددة على هكذا تساؤل وأن لكل تجربة وصفة نجاحها الخاصة الذي تشكله خلال خوضها للتجربة الاّ أنني أظل مُصرة على وجود محرّك خفي لتحقيق التغيّر الإيجابي عملياً على الأرض.
حملة “صار وقتها” دلتني على أنّ السر يكمن في شعور أهل الحملة بالإلحاح
الإلحاح الذي لا يُدرّس ولا يُمنح، فهو إمّا
موجود في داخلنا وإمّا غير موجود إذ لا نستطيع أن ننتظر من حدث جديد في قضية ما أن يحرّك فينا الشعور بالإلحاح. حيث أنّ خبرا صحفيّا عن تزويج فتاة من مغتصبها أو عن التمييز ضد مجهول نسب أو الظلّم الموجه لعائلة لا تستطيع فيها الأم أن تمنح زوجها و أولادها جنسيتها، أو خبر رفع الأسعار، وكل خبر عن اعتقال أحرار الكلمة والصوت والفن، وطرد لآخرين من موقعهم الإداري لمجرد كشفهم لواقع جُرميّ مسكوت عنه، وغيرها من الأخبار التي نعتقد أنهّا ملحّة بشكل كافٍ لنتحرك، بينما في الحقيقة ما تحرّكه فينا هذه الأخبار هو الشعور بالفزعة لا الإلحاح.
فنفزع ضد الظلم ونُستفز ونشعر أنّ من واجبنا التحرّك، نتحرّك فنكتب شعاراً أو نضع صورة أو نخلق صفحة على الفيسبوك أو نفكر بحملة، وعند أوّل اختبار عملي إمّا ان نتباطأ و إما أن نتوقف. لأنّ تجاوز خلق صفحة وخلق فكرة حملة نحو العمل، يعني أن نخلق فريقاً، أن نتعلّم ونتحمّل المسؤولية التشاركية في عمل جماعي لا فردي، وأن ننظّم الجهد ونلتزم ونواجه التوتر والغموض و نُصّر على التجربة والعمل، و أغلبنا يعرف أن هذا ليس سهلا. لهذا نتوقف عند أول اختبار عملي و تخمد فزعتنا مع الأيّام لتعود وتشتعل من جديد مع خبر أو قصة ظلم جديدة، ولكن هذه المرة عندما نهم بالتحرك العملي، نستذكر تجربتنا الأولى التي لم تتحقق و نُسوّف العمل أو نحمّل مسؤوليته للحكومة او للمؤسسات المجتمعية أو لناشطين غيرنا.
مفهومي الجديد عن الإلحاح صاغته لي حملة صار وقتها، وهي حملة يقودها طلاّب في الجامعة الأردنية وتهدف إلى تهيئة الجامعة بيئياَ وتعليميا للأشخاص ذوي الإعاقة البصرية والسمعية والحركية. كانت مؤسسة أهل قد التقت بالطلاب في شهر حزيران، في ورشة عمل حول رواية القصص على نهج تنظيم المجتمع بتنسيق من برنامج “تعزيز وتطوير المجتمع المدني”.وتمّ استقطاب 12 شخصاً من المشاركين ليخرجوا معاً بفكرة قيادة حملة تحقق مطالبهم بالتهيئة البيئية في الجامعة، وهكذا شكل الفريق هوية الحملة، هدفها، ورؤيتها، وأسماها ” صار وقتها”.
وبدأت “صار وقتها” تفاجئنا بالكثير عندما توقعنا الأقل. كنّا على بعد عشرة أيام من موعد ورشة العمل الثالثة لتكوين الفرق في حملة صار وقتها، وتوقعّنا أن يحشد الفريق المؤسس ثلاثين طالباً وطالبة ولكنّهم حشدوا 78 تم اختيار 50 منهم لحضور الورشة بناءً على قدرتهم ورغبتهم في الالتزام أيام الورشة وبحياة الحملة فيما بعد.
ورشة العمل جاءت في وقت اعتقدنا نحن كميسّرين ومدرّبين أنه غير مناسب، حيث جاء أول يوم تدريبي عشيّة قرار رفع الدعم الحكومي عن المشتقات النفطية، وعشّية خروج الآلاف للتظاهر ضد هذا القرار.
اجتمع فريق التدريب صباحاً ووضع احتمالية تغّيب نصف المشاركين، للنقاش، و فكرّوا في بدائل في حال إلغاء الورشة يومي الخميس والجمعة والمفاجأة كانت حضور 45 مشارك ومشاركة، وإصرارهم على مباشرة التدريب بدون أي تأجيل. وفي اليوم الثاني يوم الجمعة تجدد تخوّفنا من غياب البعض الاّ أنهم حضروا بالرغم من أنّ الكثير منهم تحدّى تخوّف أهله وخرج من البيت بشجار لحضور الورشة.
من هنا بدأ يتضّح لنا مشهد حملة تسير نحو الهدف بنجاح لم نعد نشّك بحدوثه لا لأنّ الحملة لها هدف واضح أو لأنها تتشكل على نهج القيادة التشاركية فقط، أو لأن منظميها هم أهل القضية، ولكن لأنّ أحد المشاركين قال أثناء الورشة جملة عابرة كانت تكفي لأن نفهم السر، “فش بعد شوي”، هذا ما قاله وهو يرد على زميلة له أثناء فترات العمل الجماعي في الفرق.في هذه اللحظة فهمت أكثر اسم حملتهم، فهمت سر حماسهم ووهجهم للالتزام والعمل والتعلم رغم جدول دراستهم الكثيف. فهمت معنى الشعور الخفي بالإلحاح، هذه السوسة الداخلية التي تجعلك تشعر أنّك معنّيٌ بالتحرّك في قضيّتك الآن. تجعلك تنهض وتعمل في اللحظة التي يقول فيها الآخرون “بكرا”، تجعلك متُفاعلاً مع كل فرصة تعلّم وكل مورد جديد في الوقت الذي يحاضر فيه الخبراء عن استثمار الفرص والموارد ويمر عنها الآخرون.
الحملة خلال الورشة التي كانت بتاريخ 15\11\ 2012 واستمرت ثلاثة أيام، أصبحت تتكّون من خمسة فرق قيادية اختارت أن تكون فعاليتهم الأولى بتاريخ 3\12\2012 وهو اليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة. مما يعني أنهم محدودون بمدة أسبوعين فقط لصياغة مطالب حملتهم صياغة نهائية، والإعداد لعريضة الحملة وجمع أكثر من ألف توقيع عليها، و اختيار فريق مفاوض وتدريبه على الحوار، ثم مقابلة العميد ومن بعده رئيس الجامعة وأخيراً الدعوة للحفل والتحضير له. وهذا ما كان يوم 3\12 في خيمة خلف برج الساعة في الجامعة الأردنية، احتفل منظمو الحملة بإطلاق حملتهم وبتبنّي رئيس الجامعة لجميع مطالبهم دون أي استثناء في حفلٍ أعدّوا له من الألف إلى الياء، وحضره ما يقارب 200 طالب وطالبة وبعض أعضاء الهيئة التدريسية، وأبدى 149 منهم رغبتهم بالتطوّع في “صار وقتها”.
كان ممكناً لأهل الحملة أن يفكروا بتأجيل الفعالية لو تحججوا بأن الوقت لا يكفي للتحضير لفعالية هادفة، أو لو ترددوا وخافوا من مقابلة الرئيس وعرض مطالبهم عليه. لكنّ إيمانهم بأنه “صار وقتها” ليتحرّك أهل القضية قبل أن ينتظروا تحرّك غيرهم، وإيمانهم بأنه “فش بعد شوي”، جعلهم يخوضون التجرّبة بدون ترحيل للمسؤوليات وبدون خوف من خوض الغموض في التجارب العملية على الأرض.
السرّ بكل بساطة أن يقول داخلك لك “فش بعد شوي”، فتنهض الآن. أمّا كيف نحافظ على هذا النهوض وكيف نبقي شعلة الإلحاح متقدة، فهي أسئلة لم أجد لها إجابات شافية حتى الآن. ولكن واستناداً لتجربة حملة “صار وقتها”، قد يرجع اّتقاد شعلة الإلحاح في أهل الحملة إلى كونهم مجموعة تتخذ قراراتها بالإجماع، فلا يوجد صوتٌ واحد يقرر عن المجموعة إن كانت ستمضي نحو الهدف أم لا. الجميع يقرر والصوت المتحمّس يسند الصوت الخائف ويمضون في تجربتهم الأولى. وبما أنّ التجربة الأولى للحملة وهي لقاؤهم بالرئيس كانت ناجحة، فقد أعطتهم قوة داخلية كانت كافية للحفاظ على الشعلّة حتى يوم الإطلاق. وأعتقد أنّ اللحظة التي سيبتعد فيها أهل الحملة عن اتخاذ قرارات مصيرية بشكل جماعي، أو سيتعكزّون فيها على النجاحات السابقة دون المثابرة نحو تجربة إحقاق حق جديد، هي اللحظة التي سيهدأ فيها شعورهم بالإلحاح وستتباطأ مسيرتهم وربمّا تتوقف !
وفي الختام، أهدي تعلّمي لأهل الحملة والقرّاء عبر أغنية هيدا زمانك لخالد الهبر التي يقول فيها:
أكتر من أيّا زمان هيدا زمانك،
أقرب من أيا مكان هون مكانك،
حاجة تفتش عن كيان هيدا كيانك،
حاجة تطلع وراك اطلّع قدّامك،
قاعد ناطر مدري شو مدري مين،
قاعد عم تتفرج ناطر يمكن بكرا بتفرج
وانت وحدك قاعد عارف أنه اكتر من ايا زمان هيدا زمانك