https://ahel.org/wp-content/uploads/2024/02/header-scaled.jpg
https://ahel.org/wp-content/uploads/2025/08/Athar-members-articles-01.png

حين يصبح الخوف قوة

لبنى رزق

في شمال غزة، خلال واحدة من أكثر جولات العدوان وحشية، لم يكن هناك مكان آمن. البيوت دُمّرت، الشوارع امتلأت بالحطام، والمستشفيات تحولت إلى محطات لاستنزاف البشر والموارد. وبينما تهاوت الأبنية، تشكّلت معجزة صغيرة: مقاومة مدنية جماعية، سلاحها الوحيد كان التماسك والتنظيم والتكافل.

لم تكن هذه القوة مؤسسية، ولا صاخبة أو مدعومة بالمنصات الإعلامية، بل ظهرت في تفاصيل الحياة اليومية: في قرار امرأة أن تنظّم مأوى للنازحين، أو في إصرار طبيب على العودة إلى عمله رغم الغارات، أو في حضن أم يدفئ طفلاً غريبًا يرتجف من البرد. وسط هذا الجحيم، وُلدت قوة هادئة لكنها صلبة، تتغذى من الإحساس العميق بالمسؤولية الجماعية.

من موقعي كعاملة صحية وأم لخمسة أطفال، أحدهم وُلد في قلب العدوان، لم يكن ممكنًا الفصل بين الخاص والعام. كنا نتحرك كأفراد داخل شبكة متصلة من الخوف والعمل والأمل. أذكر جيدًا كيف كنا، نحن العاملات والعاملين في مستشفى العودة، نغادر بيوتنا المحاصَرة بالقصف، نترك أبناءنا في أماكن غير آمنة، ونلتحق بمواقعنا لنقدّم الرعاية لأشخاص تركوا أبناءهم أيضًا، أو فقدوهم، أو لم يعودوا يعرفون عنهم شيئًا.

في المستشفى، كان استمرار العمل بحد ذاته فعل تحدٍّ يومي. لا ضمانات للنجاة، ولا إمكانيات كافية، لكن رغم ذلك واصلت الطواقم أداء واجبها. تلك المداومة، وسط القصف ونقص الموارد والانهيار النفسي، لم تكن مجرد التزام مهني، بل شكلًا من أشكال المقاومة الحقيقية.

بعيدًا عن المستشفيات، تحولت مراكز الإيواء إلى مساحات لصناعة النظام وسط الفوضى. هنا، لعبت النساء أدوارًا محورية، غالبًا غير مرئية، في تنظيم الحياة المشتركة. وزّعن الأدوار، أعَدْن ترتيب المساحات، احتوين الأطفال، وخلقن حدًّا أدنى من الكرامة وسط ظروف لا إنسانية. لم ينتظرن توجيهات خارجية، بل تحركن بدافع داخلي نابض بالمسؤولية. هذه القيادات النسوية اليومية، الصامتة في ظاهرها، كانت واحدة من أوضح تجليات القوة الجماعية.

أما اللحظات الأكثر تأثيرًا، فكانت تلك التي نشأ فيها تضامن عفوي خالص. حين تُعطي أم بطانيتها لطفلة غريبة، أو حين يجلس الكبار ليغنّوا للصغار في محاولة لحجب أصوات الطائرات، أو عندما تقف امرأة فجأة وتقول للناس: إحنا لبعض، كان ذلك تجسيدًا حيًا لمعنى أن تكون الجماعة هي الدرع الأخير. لا قوانين ولا أنظمة، بل رابطة إنسانية تعيد للناس قوتهم في أقسى لحظات الضعف.

هذه التصرفات لم تكن مخططًا لها، لكنها كانت استجابات واعية ومتكررة، نابعة من تجربة جمعية عميقة. لذلك فهي ليست مجرد تعبير عن النجاة، بل عن تنظيم تلقائي في مواجهة الكارثة. كانت أشكالًا من الحراك الشعبي غير الرسمي، لكنها فعالة، مؤثرة، ومبنية على قيم التعاون والكرامة.

اليوم، ونحن نحاول إعادة لملمة ما تبقى من أرواحنا، لا نكتب لتسجيل بطولة فردية أو لصناعة رموز، بل لنُبرز ملامح ملحمة جماعية صنعها أناس عاديون في ظروف غير عادية. في شمال غزة، لم يكن الناس ضحايا فقط، بل فاعلين، منظّمين، وحاملين لبعضهم البعض رغم الانهيار.

هذه الشهادة ليست مجرد توثيق لما حدث، بل تأكيد على أن المجتمعات تملك في داخلها مصادر قوة لا تنضب، تظهر حين يتحول الخوف إلى دافع، والألم إلى رابط، والنجاة إلى مشروع جماعي. إن ما فعله أهل غزة، وأهل الشمال خصوصًا، هو درس في كيف يمكن للناس أن يصنعوا من الألم قوة، ومن الانهيار معنى، ومن الغياب فعلًا جديدًا للبقاء.

لبنى رزق

منسقة مشاريع في جمعية العودة الصحية والمجتمعية، وعضوة في شبكة أثر – فلسطين. تتابع مبادرات لدعم الفئات المهمشة وتعزيز الصمود، وتحمل ماجستير في بناء المؤسسات وتدرس الدكتوراه في العلوم الإدارية، وهي أيضًا أم لخمسة أطفال.